منذ ساعات

الملف الصحفي

القانون الوضعي

جريدة الوطن الثلاثاء 30 شوال 1427هـ الموافق 21 نوفمبر 2006م العدد (2244) السنة السابعة

القانون الوضعي

علاء عبدالحميد ناجي*
يُتَّهمُ أهل القانون كثيرا من قبل أهل العلم الشرعي والفقهي بأنهم علمانيون، يحكمون بغير ما أنزل الله، ويعطلون الشريعة من خلال تقديم أحكام البشر.
وكلمة "قانون" لدى البعض كلمة منبوذة ومنبوذ أهلها وأتباعها على مختلف الأصعدة، ولهذا فنحن لدينا "أنظمة" وليس لدينا "قوانين"، ولدينا أقسام تابعة لكليات الإدارة والاقتصاد أو العلوم الإدارية تدرس "الأنظمة" لا "القانون"، وليت شعري ما الفرق بين "النظام" وبين "القانون" مادامت المواد التي تدرس واحدة؟
وعلى الرغم من أننا هنا في المملكة نملك مجموعة من أروع الأنظمة كتابة وصياغة إلا أن هذه الأنظمة لا تعدو أن تكون حبرا مكتوبا على الورق، مادامت خارج نطاق التطبيق والإلزام على أصحاب الصلاحية في تنفيذها قبل الآخرين.
أقول، إذا أردت أن تضيع حقا فأعط الحرية لشخص صاحب سلطة خارج حدود القانون، ومثال واحد بسيط يكفي للدلالة على هذا هو سجناء جوانتانامو، فحتى تضيع حقوقهم أعطى بوش ورامسفيلد أنفسهم الحرية لأنفسهم خارج حدود القانون، بحيث أعلنوا أن هؤلاء السجناء لا يخضعون لمعاهدة جنيف، وكم من عام مر ونفس أزهقت، وكرامة انتهكت في معسكر إكس هذا قبل أن يقضي القضاء الأمريكي أخيرا أنهم أسرى حرب.
أنا من أشد المعارضين لتعطيل الشرع وتطبيقه، وأرى في ذات الوقت أن تطبيق الشرع لا يمكن له أن يتم من دون قانون وضعي، ومن دون أن يكون هذا القانون مكتوبا أو محفوظا بآلية أخرى مثل السوابق القضائية، وقبل أن تحكم على هذا الكلام، فإنني أود أن نتشارك التفكير مليا والنظر في النقاط التالية:
1) معروف لدى الصغير والكبير أن التشريع الجنائي الإسلامي يعرف ما يسمى بـ(التعازير) والتعزير من صلاحيات ولي الأمر التي له أن يفوضها للقضاة، وهي مسألة واسعة تعطي القاضي صلاحيات لا نهاية لها، فإن لم تكن هذه الصلاحية منضبطة من خلال قانون مكتوب يبين الجنح من الجنايات ويحدد العقوبات المتاحة سيظل العالم يشير إلى الأحكام الغريبة التي تصدر من البعض بالبنان، والتي من أمثلتها الأحكام الصادرة بحق مغازلي النهضة، فهم شباب يستحقون أن يعاقبوا بلا أدنى شك ولكن هل من المعقول أن تصل عقوبة فعل كهذا إلى أشد من حد الزنا لغير المحصن، وإن وافقنا على ذلك في حق الفاعل والمصور فهل يمكن أن نوافق على عقوبة أشد من عقوبة الزنا لغير المحصن لمن شاهد ولم يشارك (السجن 7 سنوات و400 جلدة وكذلك 6 سنوات و 400 جلدة)، إن كانت هذه الأحكام مقبولة في حق هؤلاء فإن سؤالي هل لو ارتكب المغازل الزنا (وهو غير محصن) كان أفضل له وأيسر من حيث الحكم؟
وسؤالي الآخر ماذا لو ارتكبت جريمة الاغتصاب؟ وماذا لو كان هذا الاغتصاب لفتاة ولشاب في آن معا وبالإكراه ومن أشخاص متزوجين؟ الشرع والمنطق يقولان إن العقوبة ستكون أشد، ولكن هذا لم يحدث بل إن العقوبات التي صدرت من محكمة القطيف الكبرى كانت أخف من عقوبة من حضر في نفق النهضة ولم يشارك (5 سنوات و1000 جلدة، 4 سنوات و800 جلدة، 4 سنوات و350 جلدة، سنة و80 جلدة).
ولنقل إن الأساس في الاختلاف هو موضوع النشر واستخدام البلوتوث، إذن لماذا حكم على من حضر تصوير البلوتوث وأقر بأنه هو من أحضر الفتاة فقط سنتين و200 جلدة في القضية المشهورة للفتاة الخليجية.
ما هو المعيار الذي استند إليه القضاة في هذه القضايا؟ وعلى أي أساس صدرت هذه الأحكام؟
أقول، لو كان لدينا قانون جنائي مكتوب لما احترنا ولما احتار القضاة ولما أصدر قاضي النهضة حكمه تحت تأثير الضجة الإعلامية ولكان حكمه موضوعي.
2) هنالك باب في الجروح والجنايات اسمه "حكومة العدل" ومختصر هذا الباب أن الأضرار البدنية المترتبة على الجناية والتي لا تدخل في باب الدية ولا الإرش ولا الجروح المسماة، يتم تقديرها من قبل حكم عدل، وهو هنا القاضي، فكيف سيتسنى لنا قياس مدى عدالة حكومة العدل وليس لدينا شيء مكتوب نرجع إليه في هذا الباب.
3) من أسمى غايات الشرع ضمان تحقيق العدالة للجميع، والقضاة في آخر المطاف بشر، يعتريهم من الضعف البشري ما يعتريني ويعتري غيري، فإن كانوا في الجملة صالحين متقين فلا يخلو الأمر من وجود من يمكن أن تضعف نفسه لأي سبب خصوصا مع السلطان الذي يملكه القاضي، أليس وجود النص المكتوب الذي يحدد للقاضي اختصاصه وصلاحيته ونطاق الأحكام التي يمكن له أن يصدرها ضمانة للمتقاضين بتحقيق العدالة؟ (يشمل هذا الكلام أنظمة المرافعات الشرعية والإجراءات أمام الديوان ولكن المقصود به بقية الأنظمة التي ينظرها القاضي).
4) لقد جدت لدينا مستجدات ونزلت نوازل لا بد لها من قانون وضعي مكتوب يحكمها، مثل أحكام المرور، النقل الجوي، الشحن البحري، البريد الإلكتروني، المواد المرئية والمسموعة، الأخطاء الطبية، الأضرار البيئية، وأنا هنا لا أقول "وضعي" بمعنى الخروج عن الشرع ولكن أقول "وضعي" بمعنى أنه موضوع من قبل الجهة التي فوضها ولي الأمر بالتشريع ووفقا للأسس والقواعد التي وضعها ولي الأمر (والتي من خطواتها دراسة مدى التوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية)، وبمجرد صدور هذه الأنظمة وغيرها تصبح هي الشرع اتباعا لقوله تعالى "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".
5) ليت المملكة تقر إنشاء محكمة تنظر في شرعية الأنظمة والقرارات التي تتخذها الدولة، وكذلك تفسير الأنظمة، بدلا من أن يترك هذا الأمر للاجتهادات الشخصية للأفراد بغض النظر عن مناصبهم وعلمهم وفقههم.
عندما تكون نصوص القانون الواضحة والمستنبطة من كلام الله وكلام رسوله هي سيد الموقف وتكون لها الغلبة أمام الجميع ستصبح الحقوق واضحة الملامح، وستصبح الصلاحيات واضحة الحدود، وستكون المساءلة على المسؤوليات أكثر وقع.

*مستشار قانوني وكاتب سعودي

نظام المرافعات الشرعية
نظام ديوان المظالم